5.10.06

البحر و الجدار

رأيت اليوم صورة بحر، بحر ما في مكان ما، فتذكرت أني لم أر البحر منذ زمن بعيد، لا ادري منذ كم سنة بالتحديد، فالناس هنا لا يعدون الزمن بالسنوات بل بالأشياء و الثورات و الشهداء و الثلج.

يقولون كان كذا يوم الثلجة و يوم الهزة و كان كذا يوم الثورة السادسة او العاشرة و حدث كذا يوم استشهد فلان أو جرح علان.

أنا زرت البحر أخر مرة قبل أول انتفاضة في حياتي و بعد الثلجة الثانية و كنت صغيرا و للبحر على الصغار تأثير سحري خاصة إذا كانوا مثلي و كان البحر مثل بحرنا.

البحر بعيد عني عشرة أميال إلى الغرب، و ثمان و خمسين سنة إلى الوراء. بيني و بين البحر سهل واحد و جبلان. و ألف حاجز و ألف بندقية و شعب لا افهم لغته و لا يفهم لغتي و مئات الثورات و الحروب و الزعماء و المفاوضات. بيني و بين البحر عشر قرى ما زال فيها ضحكات أطفال. و خمس مئة قرية مدمرة و عشرون مخيما و جدار.

البحر موجود و أنا متأكد من ذلك، تأتيني منه نسائم و نوارس، تتكسر النسائم على الشرفات المفتوحة على الغرب و الجراح و ترحل النوارس إلى الشمال في الشتاء. أما أنا فلا احد يأخذني إلى البحر.

منذ سنة لم تعد تأتينا نسائم و لا نوارس فهم قد بنوا جدارا عالياً بيني و بين البحر، ولكني أستطيع إذا ما صعدت الى أعلى جبل في القرية أن أشم رائحة البحر، او ما اعتقد أنها رائحة البحر.

مرة طلعت الى الجبل لأشم رائحة البحر و كانت السماء صافية جداً و رأيت عند الغروب شيء يلمع و قال لي رجل كان هناك إن هذا هو البحر و ما كنت لأصدق لولا أن هذا الرجل كان درويشا يعيش في الجبال كل وقته و هو عارف بأمر الجبال و اللمعان و كثير من الأسرار الاخرى. و كنت أتساءل لماذا يعيش هذا الرجل في صومعته على قمة الجبل بعيداً عن البشر. أمثلي عاشق للبحر هو؟ لقد كنت اغبطه على أية حال لأنه يعيش في هواء البحر و يرى لمعانه كل غروب.

بعد الانتفاضة الثانية بنوا مستوطنة على الجبل و صاروا يطلقون النار على كل من يصعد إلى الجبل ليشم رائحة البحر او يرعى الغنم او يجمع الزعتر. و لم اعد أشم رائحة البحر.

أريد ان اذهب الى البحر، الملح يتعطش في دمي و قدماي تنمنمان، أريد أن امشي على الرمل و أن اسبح، هل سيكون ماؤه دافئ أم بارداً ، لا اذكر لكني اذكر بعض التفاصيل، ذلك الزبد الابيض، الصدفات العادية التي لا يكترث لها احد و اعتبرها أنا كنزاً، الرمل المبلل، و رائحة البحر – يا لرائحة البحر! وذلك الحزن المتوحش يفيض من البحر و يغسلني و ينتشر في كل مكان، ثم ذلك الشعور بالفقدان. ظلال رائحة ازهار برتقال، لم يعد هناك برتقال لكني كنت أشمها. و من البحر يخرج ألاف الأشباح لأناس يحملون أمتعتهم و ملابسهم و يرحلون من البحر الى اللامكان.

كان البحر يحزنني لكني كنت اذهب اليه. قال لي احدهم انه يشعر بالذنب إذ يذهب الى البحر مستمتعا به و لذا ما عاد يذهب. لكني أنا سوف اذهب الى البحر ... و احزن.

و لكن كيف السبيل، الجدار عال و الجنود متربصون.

ربما بعد هذه الانتفاضة ، ربما يكون سلاما يوما ما، ربما احفر نفقا تحت الجدار كما يفعلون في غزة، لكن الأرض هنا صخرية ليست كرمال غزة و أنا وحدي لن أجد من يشاركني في حفر نفق من اجل البحر!

حتى ذلك الوقت سأرسم بحرا على الجدار بزبد و أصداف عادية و رمل مبلل، ربما ارسم أيضا جبلا تفوح عليه رائحة البح
ر
.
لكن علي أن أجد مكاناً فارغاً على الجدار لأرسم عليه، فرغم أن الرسم على الجدار عمل خطر و أنت معرض لإطلاق النار من الجنود، إلا انك لا تجد مكانا فارغا عليه فقد رسم الناس كلهم – الأطفال و الكبار و الشيوخ – عليه كل شيء. السماء و الزهور و الحرية و الأشجار و الوديان و صور لأشخاص ذهبوا. رسموا كل شئ أحبوه خلف الجدار،
و أنا أحب البحر و لابد أن أجد متسعا لرسم البحر على الجدار.